فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (9):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)}
وهنا أيضاً تبدأ الآية الكريمة بقوله سبحانه: {وَلَئِنْ} وهذا يعني أن اللام قد سبقت لتدل على القسم، وكأنه يقول: لئن أذقنا الإنسان رحمة، ثم نزعناها منه لوقع في الياس.
وهنا أيضاً قسم وشرط، والقسم متقدم، فالجواب يكون للقسم.
وكلمة {أَذَقْنَا} توضح أن الإذاقة محلها الأول الفم، ومعناها: تناول الشيء لإدراك طعمه: حلو أو مر، لاذع أوغير لاذع، قلوي أو حامض.
ومن العجيب في دقة التكوين الإنساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له، فطرف اللسان ينفعل لطعم معين، ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر، وجوانب اللسان تنفعل لطعم ثالث، وهكذا.
كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب.
وكل (حلمة) من مكوِّنات اللسان لها شيء تحس به؛ ولذلك نجد الإنسان يذوق الطعام، فيقول: إن هذا الطعام ينقصه الملح، أو يذوب الحلوى مثل الكنافة فيقول: إن السكر المحلاة به مضبوط.
وكذلك حرارة الجسم، يقيس الإنسان حرارته، فإن وجدها سبعة وثلاثين درجة ونصف الدرجة؛ فيقول: إنها حرارة طبيعية. وإن نقصت حرارة الإنسان عن ذلك يقال: إنه مصاب بالهبوط. وإن ارتفعت يقال: مصاب بالحمى.
وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم الإنسان، ولها المنافذ الخاصة بها. ولكن كل عضو في الجسم تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله.
فالكبد إن قلَّت درجة حرارته عن أربعين درجة لا يؤدي مهمته. وجسم الإنسان فيه جوارح متعددة؛ وحرارة العين مثلاً تسع درجات؛ لأنها لو زادت حرارتها عن ذلك لانفجرت العين، وحرارة الأذن ثماني درجات.
وأنت لا تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها، ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء ذلك بالنسبة للجسم الإنساني.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} [هود: 9].
والذوق هو للإدراك، لا للأكل، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع: (تفضَّل ذُقْ) فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها.
فالذوق إذن هو تناول الشيء لإدراك طعمه.
والنعمة حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب الإنسان، ثم تُنزَع منه، هنا يصاب الإنسان بالقلق أو الحزن أو الهلع، أو اليأس.
والنعمة مهما قلَّت فالإنسان يستطيبها، وإن نُزعت منه فهو يئوس كفور.
واليأس: هو قطع الأمل من حدوث شيء، ولأن الإنسان لا يملك الفعل، ولو كان يقدر عليه لما يئس.
والمؤمن لا ييأس أبداً؛ لأن الله سبحانه هو القائل: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87].
اليأس إذن هو أن تقطع الأمل من أمر مراد لك، ولا تملك الوسائل لتحققه.
والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه؛ لأن الله تعالى هو الركن الرشيد الشديد، والمؤمن إن فقد شيئاً يقول: (إن الله سيُعوِّضني خيراً منه).
أما الذي لا إيمان له بإله فهو يقول: (إن هذه الصدفة قد لا تتكرر مرة أخرى).
فالإنسان الذي يُسْرَق منه جنيه قد يحزن، ولكن إذا ما كان عنده في المنزل عشرة جنيهات فهو يحزن قليلاً على الجنيه المفقود.
والإنسان لا ييأس إلا عند عدم يقينه بمصدر يرد عليه ما يريده، ولكن حين يؤمن بمصدر يرد عليه ما يريده فلا تجده يائساً قانطاً.
والمؤمن يعلم أن النعمة لها واهب، إن جاءت شكر الله عليها، وإن سُلبت منه، فهو يعلم أن الحق سبحانه قد سلبها لحكمة.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9].
ونحن نعلم أن الإنسان مقصود به كل أبناء آدم عليه السلام وهم كثيرون، منهم المؤمن، ومنهم الكافر.
وهنا تأتي كلمة (الإنسان) على إطلاقها، ولكن الحق سبحانه وتعالى يستثنى المؤمن في موضع آخر حين يقول الحق سبحانه: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 13].
و(الإنسان) مفرد يدل على الإنسان في كل مدلولاته، ويستثنى من نوع الإنسان من آمن به.
فإن رأيت كلمة إنسان فاعلم أن المراد بالإنسان أفراد الإنسان كلهم.
والإنسان لو عزل نفسه عن منهج الله تعالى فهو في خسران إلا إذا اتبع منهج الله، فالمنهج يحميه من الزلل، وتسير غرائزه إلى ما أراد الحق سبحانه لها.
فقد خلق الحق سبحانه الغرائز لمهام أساسية، فغريزة الجوع تجعل الإنسان يطلب الطعام، والعطش أراده الله سبحانه وتعالى لينتبه الإنسان إلى طلب الارتواء بالماء.
وغريزة بقاء النوع تدفع الإنسان للزواج، وغريزة حب الاستطلاع هي التي تدفع الإنسان إلى كشف المخترعات.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل عن الساهين عن استكشاف آيات الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
والباحث العلمي التجريبي المعلمي ينظر في ظواهر الكون ليستطلع أسرار الكون.
وهناك فارق بين حب الاستطلاع لاكتشاف أسرار الكون، وحب الاستطلاع لأخبار الناس.
إن حب الاستطلاع عموماً هو مدار التقاءات الكون، ولكن الدين والخلق هو الذي يوجه حب الاستطلاع.
إذن: فالقرائن لها مهمة يجب ألاّ تنفلت إلى غيرها، والدين قد جاء ليعلي من الغرائز ويوجهها إلى مهامها.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الحجرات: 12].
أي: لا تتبعوا العورات؛ لأننا لو أبحنا لواحد أن يتتبع عورات الناس؛ لأبحنا لكل الآخرين أن يتتبعوا عوراته.
وحين منع الحق سبحانه وتعالى الإنسان من تتبُّع عورات غيره، فهو قد حماه من تتبع عوراته.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} [هود: 9].
وكلمة (النزع) تفيد أن الإنسان حريص على ما وهبه له الله تعالى من خير وصحة وعافية ويُسْر. وحين تؤخذ منه النعمة فهو يقاوم.
والنزع يعني: استمساك المنزوع منه بالشيء المنزوع.
ولذلك يقول الحق سبحانه في سورة آل عمران: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26].
كأن الموجود في الملك يتشبث به جداً.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9].
وفي نفس السورة يأتي الاستثناء، فيقول الحق سبحانه: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11].
وسنأتي لها بالخواطر من بعد ذلك.
ويقول الحق سبحانه وتعالى في المقابل لمن نُزِعَتْ منه الرحمة واليئوس الكفور: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ}

.تفسير الآية رقم (10):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}
وهنا نجد الضراء هي الموجودة، والنعماء هي التي تطرأ، عكس الحالة الأولى، حيث كانت الرحمة، من خير ويسر هي الموجودة.
فالنزع في الأولى طرأ على رحمة موجودة، والنعماء طرأت على ضرَّاء موجودة.
وهناك فرق بين نعماء ونعمة، وضراء وضر؛ فالضر هو الشيء الذي يؤلم النفس، والنعمة هي الشيء الذي تتنعم به النفس.
لكن التنعُّم والألم قد يكونان في النفس، ولا ينضح أي منهما على الإنسان، فإن نضح على الإنسان أثر النعمة يقال فيها (نعماء)، وإن نضح عليه أثر من الضر يقال: (ضراء).
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني} [هود: 10].
ولا يفطن من يقول ذلك إلى المُذْهِب الذي أذهبَ السيئات؛ لأن السيئة لا تذهب وحدها.
ولو كان القائل مؤمناً لقال: رفع الله عني السيئات.
لكنه غير مؤمن؛ ولذلك يغرق في فرح كاذب وفخر لا أساس له.
ويصفه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10].
وكأن الفرح بالنعمة أذهله عن المنعم، وعمن نزع منه السيئة.
وأما الفخر، فنحن نعلم أن الفخر هو الاعتداد بالمناقب، وقد تجد إنساناً يتفاخر على إنسان آخر بأن يذكر له مناقب وأمجاداً لا يملكها الآخر.
ونحن نعلم أن التميز لفرد ما يوجد في المجتمع، ولكن أدب الإيمان يفرض ألا يفخر الإنسان بالتميز.
ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر».
وفي أحدى المعارك نجده صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب».
وقد اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك؛ لأن الكافرين في تلك المعركة ظنوا أنهم حاصروه هو ومن معه وأنه سوف يهرب، لكنه صلى الله عليه وسلم بشجاعته أعلن: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وكان أقرب المسلمين إلى مكان الأعداء الكافرين وفي مواجهتهم.
ونحن نجد المتصارعين أو المتنافسين، واحدهم يدخل على الآخر بصوت ضخم ليهز ثقة الطرف الآخر بنفسه.
والفخور إنسان غائب بحجاب الغفلة عن واهب المناقب التي يتفاخر بها، ولو كان مستحضراً لجلال الواهب لتضاءل أمامه، ولو اتجهت بصيرة المتكبر والفخور إلى الحق سبحانه وتعالى لتضاءل أمامه، ولردَّ كل شيء إلى الواهب.
ومثال ذلك في القرآن الكريم هو قول الحق سبحانه على لسان صاحب موسى عليهما السلام: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82].
وهذا سلوك العابد المتواضع.
أما حال الفخورين اللاهين عن الحق سبحانه وتعالى، فقد صوره القرآن في قول قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78].
وكان مصيره هو القول الحق: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81].
ولذلك قلنا: إنك تحصِّن كل نعمة عندك بقولك عند رؤيتها: (بسم الله ما شاء الله)؛ لتتذكر أن هذه النعمة لم تأت بجهدك فقط، ولكنها جاءت لك أولاً بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وذلك لتبقي عين الواهب حارسة للنعمة التي عندك.
أما حين تنسى الواهب فلن يحفظ تلك النعمة لك.
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع الفرح المنبعث عن انشراح الصدر والسرور بنعمة الله بل طلبه منا في قوله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
ولكن الحق سبحانه يطلب من المؤمن أن لا يكون الفرح المنبعث لأتفه الأسباب، والملازم له، وإلا كان من الفرحين الذين ذمهم الله تعالى.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}

.تفسير الآية رقم (11):

{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
وكلمة {صَبَرُواْ} هنا موافقة للأمرين الذين سبقا في الآيتين السابقتين، فهناك نزع الرحمة، وكذلك هناك (نعماء) من بعد (ضرَّاء)، وكلا الموقفين يحتاج للصبر؛ لأن كلاّ منا مقدور للأحداث التي تمر به، وعليه أن يصبر لملحظية حكمة القادر سبحانه.
وبدأ الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بالاستنثاء، فقال جل وعلا: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} [هود: 11].
ولولا هذا الاستثناء لكان الكل كل البشر ينطبق عليهم الحكم الصادر في الآيتين السابقتين، حكم باليأس والكفر، أو الفرح والفخر دون تذكُّر واهب النعم سبحانه.
ولكن هذا الاستثناء قد جاء ليُطمئن الذين صبروا على ما قد يصيبهم في أمر الدعوة، أو ما يصيبهم في ذواتهم؛ لا من الكافرين؛ لكن بتقدير العزيز العليم.
أو أنهم صبروا عن عمل إخوانهم المؤمنين.
إذن: فالصبر معناه حدُّ النفس بحيث ترضى عن أمر مكروه نزل بها. والأمر المكروه له مصادر عدة، منها:
* أمر لا غريم لك فيه كالمرض مثلاً.
* أو أن يكون لك غريم في الأمر؛ كأن يُسرق منك متاع، أو يُعتدى عليك، وفي هذه الحالة تنشغل برغبة الانتقام، وتتأج نفسك برغبة النيل من هذا الغريم، أكثر مما تتأجج في حالة عدم وجود الغريم، فحين يمرض الإنسان فلا غريم له.
وفي حالة الرغبة من الانتقام فالصبر يختلف عن الصبر في حالة وجود الغريم.
ولذلك عرض الحق سبحانه وتعالى لتأتِّي الصبر حسب هذه المراحل، فسيدنا لقمان يقول لابنه: {واصبر على ما أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
وفي هذه الآية (لام) التوكيد لتؤكد أن هذا الأمر يحتاج إلى عزم قوي؛ لأن لي فيها غريماً يثير غضبي.
فساعة أرى من ضربني أو أهانني أو سرقني أو أساء إليَّ إساءة بالغة، فالأمر هنا يحتاج صبراً وقوة وعزيمة.
أما في الحالة الأولى حالة عدم وجود غريم فالحق سبحانه يكتفي فقط بالقول الكريم: {واصبر على ما أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
ولكنه سبحانه أضاف في الآية الأخرى (اللام) لتأكيد العزم، وليضيف سبحانه في حالة وجود غريم طلب الغفران، فيقول سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
وهكذا نجد المستثنى، وهم الصابرون على ألوانهم المختلفة.
وهنا يقول سبحانه: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [هود: 11].
وما دام هنا صبر، فالصبر لا يكون إلا على إيذاء. ولكن إياك أن يكون الإيذاء من خصمك في الإيمان، أو من خصمك في ما دون الإيمان، صارفاً لك عن نشاطك في طاعة الله سبحانه؛ لأن الصبر لا يعني أن تكبت غضبك وتعذب نفسك بهذا الكبت بما يصرفك عن مهامك في الحياة، بل يسمح لك الحق سبحانه أن تتخلص من غلِّك وحقدك، بمعايشة الإيمان الذي يُخفف من غَلْواء الغضب.
ولكسر حدة الغل أباح لك الحق سبحانه وتعالى أن تعتدي على من اعتدى عليك بمثل ما اعتدى؛ لأن سبحانه وتعالى لا يريد لك أن تظل في حالة غليان بالغضب أو القهر بما يمنعك من العمل، بل يريد الحق سبحانه أن تتوجه بطاقاتك إلى أداء عملك.
ولذلك لا يلزمك الحق سبحانه إلا بحكم العدل فيقول عز وجل: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
ولكن هناك القادر على التحكم في نفسه، ولذلك يقول الحق سبحانه: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134].
ومعنى كظم الغيظ: أن الغيظ موجود، لكن صاحبه لا يتحرك بنزوع انتقامي، مثلما تقول: (كظمت القِرْبة) لأن حامل القربة لو لم يكظم الماء فيها، لتفلَّت الماء منها، أي: أنه يحبس الماء فيها.
وكظم الغيظ درجة ومنزلة، قد لا تكون إيجابية؛ لأن الغيظ مازال موجوداً؛ ولذلك تأتي مرحلة أرقى، وتتمثل في قول الحق سبحانه: {والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134].
أي: أن تُخرج الغيظ من قلبك وتتسامح.
إذن: فأنت هنا أمام مراحل ثلاث:
أن تردَّ الاعتداء عليك بمثله، والمثليَّة في رد الاعتداء أمر لا يمكن أن يتحقق، فمن صفعك صفعة، كيف تستطيع أن تضبط كمية الألم في الصفعة التي ردها إليه؟
إن المتحكم في ردِّ الاعتداء هو الغضب، والغضب لا يقيس الاعتداء بمثله، فلا يتحقق العدل المطلوب؛ لهذا يكون الصبر خيراً مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
فإن أزدتَ من قوة صفعتك تكون معتدياً.
ولعلنا نذكر مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير، وبطلها هذا التاجر اليهودي الذي أقرض رجلاً مالاً، وكان صَكُّ القرض يفرض أن يقتطع اليهودي رطلاً من لحم المقترض إن تأخر في السداد.
وتأخَّر المقترض في السداد، وأراد المرابي اليهودي أن يقتطع رطلاً من لحم المقترض، وعُرِض الأمر على القاضي، وكان القاضي رجلاً حكيماً، وأراد أن يصدر حكماً يتلمس فيه العدالة، فقال القاضي: لا مانع أن تأخذ رطلاً من لحم الرجل؛ هات السكين، واقطع رطلاً واحداً بلا زيادة أو نقصان؛ لأننا سنأخذ مقابل تلك الزيادة من لحمك أنت بنفس السكين، وكذلك إن قطعت من اللحم ما يقل عن الرطل، فسنقطع الناقص لك من لحمك أنت عقاباً لك.
وتردَّد المرابي اليهودي؛ لأن الجزار أيَّ جزار لا يمكن أن يضبط يده ليقطع رطلاً مكتمل الوزن، بل يقطع أحياناً ما يزيد عن الوزن المطلوب، ويقطع أحياناً ما يقل عن الوزن المطلوب، ثم يكمل أو ينقص الوزن حسب كل حالة.
وانسحب المرابي اليهودي وتنازل عن دعواه، والذي دفعه إلى ذلك هو عدم قدرته على أخذ المثل، فلو كان قد ارتقى قليلاً في مشاعره لما وصل إلى هذا الحكم.
والحق سبحانه وتعالى يحضنا على أن نرد العدوان بمثله، وإن أردنا الارتقاء فلنكظم الغيظ، وإن أردنا الارتقاء أكثر فلنخرج الغيظ من القلب ولنكن من العافين عن الناس؛ لننال محبة الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
وفي هذا يرتقي المؤمن بمنهج الله سبحانه، فيجعل المعتدَي عليه هو الذي يُحسن.
وحين تريد أن تفسر حب الله سبحانه للمحسنين فلسفيّاً أو منطقياً أو اقتصادياً، ستجد القضية صحيحة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22].
فإن أساء أخوك إليك سيئة، فإما أن ترد بالمثل، أو تكظم الغيظ أو ترقى إلى العفو، وبذلك تكون من المحسنين؛ لأنك إذا كنت قد ارتكبت سيئة، وعلمت أن الله سبحانه وتعالى يغفرها لك، ألا تشعر بالسرور؟
إذن: فما دُمْت تريد أن يغفر الله تعالى لك السيئة عنده، فلماذا لا تعفو عن سيئة أخيك في حقك؟
وقول الحق سبحانه: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22].
وقد جاء الحق سبحانه هنا من ناحية النفس، فجعل عفو العبد عن سيئة العبد بحسنة، فلعفو العبد ثمن عند الله تعالى؛ لأن العبد سيأخذ مغفرة الله تعالى، وفوق ذلك فأنت تترك عقاب المسيء والانتقام منه لربك، وعند التسليم له راحة.
ولو اقتصصتَ أنت ممن أساء إليك، فقصاصك على قدر قوتك، أما إن تركته إلى قدرة الله تعالى، فهذا أصعب وأشق؛ لأنك تركته إلى قوة القوي.
وهكذا ينال العافي عن المسيء مرتبة راقية؛ لأنه جعل الله سبحانه وتعالى في جانبه.
وهناك من يقول: كيف يأمر الدين الناس بأن يحسنوا لمن أساء إليهم؟ ويعلل ذلك بأنه أمر ضد النفس.
ونقول: إن الإحسان إلى المسيء هو مرحلة ارتقاء، وليست تكليفاً أصيلاً؛ لأن الحق سبحانه قد أباح أن نرد العدوان بمثله، ثم حثَّ المؤمن على أن يكظم غيظه، أو يرتقي إلى العفو وأن يصل إلى الإحسان، وكل هذه ارتقاءات اليقين بالله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى نفسك ولله المثل الأعلى ومنزَّه سبحانه عن كل مَثلٍ إنْ أردت أن تطبق الأمر على ذاتك حين تجد ولداً من أولادك قد اعتدى على أخيه، فقلبك وعواطفك وتلطفاتك تكون مع المعتدَى عليه.
ومن يقول: كيف يكلّفني الشرع بأن أحسن إلى من أساء إليَّ؟
نقول له: تذكَّرْ قول الحسن البصري رضي الله عنه: (أفلا أحْسِنُ لمن جعل الله في جانبي).
ولو طبَّق العالم هذه القاعدة بيقينٍ وإخلاصٍ لصارت الحياة على الأرض جنة معجَّلة، التسامح، قوامها القرب، ومنهجها الحب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11].
وإن تسأل أحد: ولماذا ينالون المغفرة؟
نقول: لأنهم صبروا وغفروا؛ لذلك يهديهم الله تعالى مغفرة من عنده، لأنه صبر على الإساءة، وغفر لمن أساء، فلابد أن يُثيبه الله تعالى، لا بالمغفرة فقط، ولكن بالأجر الكبير أيضاً.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}